الأربعاء، 7 يونيو 2023

ملخص عن حديث مقدار عمر السيدة عائشة رضي الله عنها وقت الزواج

 

 

روتْ عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وسنها ست سنوات وتزوجها وسنها تسع سنوات، وهذا النص إذا نظرنا إليه من حيث الزوجةُ فهو رواية تاريخية في مقدار سنها يوم زواجها، ولا يعْدو أن يكون شأنا من شؤون الأسرة، لكن إذا نظرنا إليه من حيث الزوجُ النبي الأكرم خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم فهو حديث من الأحاديث الفعلية، وينبغي الاهتمام به لأنه إن ثبت أو لم يثبت فسيكون فيه مجال للدراسات التي تستنبط وتستلهم الدروس والعبر من سيرة هذا الرسول العظيم، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.

تساؤل:

متى وُلدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟، وكم كان عمرها يوم العقد ويوم الزواج؟:

القول الأول الذي تشير إليه القرائن التاريخية هو أنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، وتمَّ عقد زواجها بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، أي بعد عشر سنوات من البعثة، وهذا قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين، وتمَّ زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في أواخر السنة الأولى بعد الهجرة، أي كان عمرها أربع عشرة سنة يوم العقد وثماني عشرة سنة تقريبا يوم الزواج، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 75 عاما.

القول الثاني هو الذي قالته عائشة رضي الله عنها، وهو القول المشهور، وهو أنها كانت بنت ست سنين يوم العقد عليها وبنت تسع سنين يوم الزواج، أي إنها وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 67 عاما.

* ـ القرائن التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها:

1 ـ عائشة أصغر من أختها أسماء رضي الله عنهما بعشر سنين، وقد وُلدت أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، أي قبل البعثة النبوية بأربع عشرة سنة، وهذا يعني أن عائشة ولدت قبل البعثة النبوية بأربع سنوات، وحيث إن العقد عليها كان قبل الهجرة بثلاث سنوات ـ أي بعد البعثة بعشر سنوات ـ فهذا يعني أنها كانت وقت العقد في الرابعة عشرة من العمر.

2 ـ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعبُ {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ}".

ذكر عدد من المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل الهجرة بخمس سنين وبعد البعثة بثمان، والجارية في أصل معناها عند العرب: هي الفـَتِـيَّة من النساء، أي الشابّة في أوائل شبابها.

إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمرها وقت نزول هذه الآية أربع سنوات، وهذا بعيد عن أصل المعنى اللغوي لكلمة الجارية، وإذا كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمُرها وقت نزول هذه الآية كان ثنتي عشرة سنة، وهذا هو المنسجم مع أصل معنى الجارية في اللغة.

3 ـ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرَّ علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة، ...". الحديثَ.

وجه الدلالة من هذه الرواية أمران:

أولهما أن الطفل لا يدرك في العادة تديُّنَ والديه بدين مغاير لدين أكثر الناس مِن حوله قبل سن الرابعة على الأقل، ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة وكان أول وعيها بما حولها في السنة الثامنة بعد البعثة لكان قولها "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين" تحصيلَ حاصل غيرَ ذي فائدة، لأن أبا بكر معلومٌ سبْقه إلى الإسلام، وأم رومان أسلمت بمكة قديما كذلك.

لكن إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات وكان أول وعيها بما حولها في السنة الأولى من البعثة فيكون لهذا القول فائدة، هي أنها ـ أولَ ما بدأت تعي ما حولها ـ رأت والديها كليهما يدينان بدين الإسلام، وليس والدَها فقط، وهذا يعني أن ولادتها كانت قبل البعثة بنحو أربع سنوات.

وثانيهما أن قولها "فلما ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة" معطوفًا على إدراكها لأبويها وهما يدينان الدين فيه إشارة خفيفة إلى أنها كانت إذ ذاك واعية لهذا الحدث، وخروجُ الصحابة من مكة للهجرة قِبَل الحبشة كان في أواسط السنة الخامسة من البعثة، وهجرتهم الثانية إليها في أواخر الخامسة أو أوائل السادسة.

ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة لما كان ممكنا لها أن تدرك ما حدث في أوائل السادسة، لكن إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني إمكان إدراكها لذلك بوضوح.

4 ـ ذكر محمد بن إسحاق في السيرة النبوية أسماء أوائل من أسلموا، وذكر منهم "أسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة"، ونقله عن ابن إسحاق جماعةٌ من أهل العلم دون إنكار.

إذا كانت عائشة مذكورة مع أوائل من أسلموا فهذا ينفي أنها وُلدت بعد البعثة بأربع سنين ويؤكد أنها قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنين على أقل تقدير.

5 ـ ذكرَ الطبري في كتاب التاريخ أن أبا بكر رضي الله عنه تزوج زوجتيه في الجاهلية، وأن أولاده الأربعة ومنهم عائشة وُلدوا في الجاهلية، أي وُلدوا قبل البعثة. وهذا نص تاريخي واضح صريح في أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية.

6 ـ روت عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم عرضتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخطِب له بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها إما عائشة وإما سَودة بنت زمعة.

من المستبعد جدا أن تفكر خولة بخطبة مَن لها مِن العمر ست سنوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصبح بدون زوجة بعد وفاة السيدة خديجة ليكون الزواج بعد ذلك بسنوات!. لكن إذا كانت بنتَ أربع عشرة سنة فهذا معقول.

7 ـ قالت عائشة رضي الله عنها في مسألة من المسائل: "ما عِلـْمُ أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، وإنما كانا غلامين صغيرين". تشير بذلك إلى أنها هي أكثر منهما وعيا للأحداث لكونهما كانا صغيرين.

وُلد أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك قبل الهجرة بعشر سنين، فهي على القول المشهور أصغر من هذين الصحابيين بسنة، فلا يستقيم إذا كانت أصغر منهما سنا أن تقول عنهما "إنما كانا غلامين صغيرين".

لكنها ـ على القول الأول ـ هي أكبر منهما بسبع سنوات، فهي أكثر منهما وعيا للأحداث، فمن المعقول أن تقول عنهما بأنهما كانا غلامين صغيرين.

8 ـ روتْ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناجى ابنته فاطمة رضي الله عنها في مرضه الذي قـُبض فيه بشيء، وأنها قالت لفاطمة: "أيْ بُنية، أخبريني ماذا ناجاك أبوك؟". فما أخبرتْها بالذي ناجاها به إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وُلدت فاطمة ـ على الأشهَر ـ قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل، وإذا كانت عائشة قد وُلدت بعد البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبر سنا منها بتسع سنوات أو أربع سنوات على الأقل!، ومن المستغرب والمستبعد جدا أن تقول الصغيرة لمن هي أكبر منها بمثل هذا القدر "أيْ بنية"، حتى لو كانت هي زوجةَ أبيها.

أما إذا كانت عائشة قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبرُ سنا منها بسنة أو أصغرُ منها بأربع سنوات، فإذا كانت فاطمة أصغر من عائشة فليس من المستبعد أن تقول الكبيرة للصغيرة "أي بنية"، وإذا كانت فاطمة أكبر بسنة فليس لهذا الفرق الضئيل تأثير يمنع أن تقول الصغيرة للكبيرة "أي بنية" إذا كانت الصغيرة هي زوجةَ أبيها. ‏

9 ـ كان مُطْعِم بن عَدِيّ قد ذكر رغبته في خِطبة عائشة لولده جُبير وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، وظن بعض الناس أن في هذا دلالة على أن عائشة كانت قبل أن يخطِبها النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة مخطوبة للزواج!.

وهذا خطأ، لأنها لم تكن مخطوبة بما تعنيه هذه الكلمة، والواقع هو أن المطعم بن عدي كان قد ذكرها مجرد ذكْر وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، ومثل هذا كثيرا ما يقع بين الناس حتى وإن كانت المذكورة ومن ذُكرتْ له طفلين صغيرين، وقد تكون بنتَ عام أو عامين.

سياق القصة يشير إلى أن المطعم بن عدي وزوجته كانا متمسكين بالشرك ويكرهان الدخول في الإسلام، كما يكرهان أن يتحول ابنهما إلى هذا الدين الجديد إذا تم زواجه بعائشة، ومن المعلوم ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحرص الشديد على دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام، فمن المستبعد إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات أن يوافقَ أبو بكر على تزويج ابنته لمشرك.

فلم يبق سوى أنَّ ذِكْرَ المطعم بن عدي لعائشة كي تكون مخطوبة لابنه وأخْذَ الوعد بذلك من أبي بكر إنما كان قبل البعثة النبوية، وهذا يعني أن عائشة كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها.

10 ـ كانت عائشة رضي الله عنها تحمل القِرَب الثقال يوم غزوة أُحُد على ظهرها ثم تفرغها في أفواه الجرحى.

ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها كانت في صِغرها نحيفة لم تحمل اللحم، وكانت يوم غزوة أحُد على القول المشهور ابنة أحد عشر عاما، وإذا كان الأمر كذلك فهي لا تقْوى غالبا على حمل قِرَب الماء الثقال لتفرغها في أفواه الجرحى ثم ترجعَ فتملأها ماء وتعودَ بها من جديد، وهذا يعني تضعيف القول المشهور في تحديد عمرها.

أما على القول الأول فقد كان عمرها يوم أحُد تسعة عشر عاما، وهذا هو الأقرب للواقع.

* ـ كل واحدة من القرائن المتقدمة لا تكفي بمفردها في الاستدلال على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، لكن اجتماع تلك القرائن يشكل دليلا قويا على ذلك.

* ـ الدليل الذي استند إليه القول المشهور في أن عائشة رضي الله عنها كانت يوم العقد عليها بنت ست سنين ويوم الزواج بنت تسع سنين:

هذا المعنى رواه عدد من الرواة عن عائشة رضي الله عنها في مصادر كثيرة من المصادر الحديثية والتاريخية، ومن تلك المصادر الحديثية صحيح البخاري وصحيح مسلم، فهو ثابت عنها من حيث الإسناد.

والظاهر أنه ربما وقع لها شيء من النسيان في أواخر العمر، لأن قولها هذا يعارضه عشرة من القرائن الدالة على خلافه، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي.

الثلاثاء، 25 أبريل 2023

التحذير من زلة العالم

روى الدارمي في السنن عن زياد بن حدير أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟!». قلت: لا. قال: «يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين». 

وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الحارث بن عمير عن معاذ بن جبل أنه قال: «إياك وزلة العالم». قال: فقلت: وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها؟. قال: «إن للحق نورا يُعرف به». 

وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق وأبو داود في كتاب الزهد والحاكم في المستدرك واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع بيان العلم، روَوا التحذيرَ من زلة العالم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وتميم الداري وأبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهم.  

علق ابن عبد البر رحمه الله على هذا بقوله: شبَّه العلماءُ زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير، وإذا ثبتَ وصحَّ أن العالم يخطئ ويزلُّ لم يجز لأحد أن يفتي بقول لا يعرف وجهه.  

قلت: هذا في جانب، وكثيرٌ من أهل الدعاوى الفارغة لا يقبلون بحال من الأحوال أن يقال عن أحد من أهل العلم إنه أخطأ في بعض المسائل ولو كان القول مدعَّما بالدليل الواضح!، ويضعون العالم في مرتبة تشبه مرتبة العصمة!، ويظنون أنهم يدافعون بذلك عن الدين وعن مقام العلماء!.  

في الواقع هم لا يدافعون بذلك عن الدين، ولا عن مقام أهل العلم، لو كانوا يعقلون. 


الجمعة، 21 أبريل 2023

حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه"


هذا الحديث فيه ثلاثة أجزاء، الجزء الأول هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، والجزء الثاني هو أنه قال لما خرج إلى أصحابه "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، والجزء الثالث تتمة القول، وهو "فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".

كنت قد كتبت بحثا عن الجزء الثاني منه وهو حديث "المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، وهو غير ثابت، والجزء الثالث صحيح يأتي في آخر هذا البحث بإذن الله، وهأنذا أكتب هذا البحث عن الجزء الأول منه.

 

* ـ رُوي الجزء الأول من هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي كبشة الأنماري، ومن مرسل عبد الله بن حبيب وسالم بن أبي الجعد:

* ـ فأما حديث جابر بن عبد الله فرواه مسلم [3388] وعبد بن حميد [1061، وفي طبعة أخرى 1059] وأبو داود [2151] والترمذي [1158] والنسائي في الكبرى [9072] وأبو عوانة في المستخرج على صحيح مسلم [4464] والطحاوي في مشكل الآثار [5550] وابن حبان [5572] والطبراني في الكبير [132 من الجزء 24] وفي الأوسط [2385] وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم [3242] والبيهقي [13889]، من ثلاثة طرق عن هشام بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه.

ورواه مسلم [3389] وابن حنبل [14537] وأبو عوانة في المستخرج [4465] وأبو نعيم في المستخرج [3243] وكذا في معرفة الصحابة [4544] والبيهقي في شعب الإيمان [5052]، من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به.

[أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس مكي وثقه عدد من الأئمة وليَّنه آخرون، وأقوالهم مذكورة في كتب الجرح والتعديل، وأقتصرُ هنا على ما أراه مهما مما سوى التوثيق: قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي واحتج عليه رجل بحديث عن أبي الزبير فغضب وقال: «أبو الزبير يحتاج إلى دعامة». وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه فقال: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وسأل أبا زرعة عنه فقال: روى عنه الناس. قال: يُحتج بحديثه؟!. قال: إنما يُحتج بحديث الثقات. وقال فيه الإمام النسائي: "كان شعبة يسيء الرأي فيه، وأبو الزبير من الحفاظ، فإذا قال سمعت جابرا فهو صحيح، وكان يدلس". أي كان يدلس الإسناد.

[آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم: ص 169. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 8/ 76. السنن الكبرى للنسائي: 2/ 443، عند الحديث 2112. وفي طبعة أخرى عند الحديث 2101].

فأبو الزبير في أحسن الأحوال صدوق ثقة فيه لين وربما دلس الإسناد، ولم يصرح في تلك الطرق بما يدل على سماعه هذا الحديثَ من جابر، فالسند منقطع، فهو ضعيف.

ـ ربما يقف بعض الباحثين على أن ابن حنبل روى هذا الحديث في مسنده [14744] وفيه تصريح أبي الزبير بقوله "أخبرني جابر" فيرى صحة إسناد الحديث!.

وهذا غير صحيح البتة، لأن نص الحديث هناك ليس فيه هذا الجزء المنكر، وإنما الذي فيه هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في نفسه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد من نفسه».

ـ هل أعلَّ حديثَ جابر أحد العلماء السابقين؟:

قال الإمام الترمذي بعد تخريجه الحديثَ: "حديثُ جابر حديث حسن صحيح غريب". وكأنه يعني بذلك صحة السند ظاهرا وغرابة المتن.

وذكر الإمام الذهبي هذا الحديث مع حديثين آخرين في كتابه ميزان الاعتدال [4/ 39] وقال: "في صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع من جابر وهي من غير طريق الليث عنه ففي القلب منها شيء". وذكر ذلك في سير أعلام النبلاء [5/ 385] وقال: "هذه غرائب، وهي في صحيح مسلم".

وإنما قال الذهبي "من غير طريق الليث عنه" لأن الليث بن سعد كان قد سأل أبا الزبير أن يعْلم له على ما سمع من جابر فأعلم له على تلك الروايات التي حملها عنه، واقتصر الليث عليها.

ـ هل أعلَّ الإمام النَسائي هذا الحديث؟:

روى الإمام النَسائي هذا الحديث في السنن الكبرى [9072] من طريق هشام بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه [9073] عن قتيبة بن سعيد عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير مرفوعا مرسلا، وعلَّق على الرواية الثانية بقوله: "هذا كأنه أولى بالصواب من الذي قبله".

قد يقال إنه يشير بهذا إلى إعلال الحديث بالإرسال، لكنْ تقدَّم قريبا في تخريج حديث جابر أن عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة روياه عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به، فروايتهما المتصلة هي أقوى من رواية قتيبة بن سعيد عن حرب بالإرسال، فلا يتم الإعلال بالرواية المرسلة التي خولف راويها برواية راويين يرويانها بالوصل.

* ـ وأما حديث ابن مسعود فرواه الدارمي [2261] والبيهقي في شعب الإيمان [5053] عن قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلّام عن عبد الله بن مسعود أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته، فأتى سودةَ وهي تصنع طيبا وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته. [قبيصة بن عقبة كوفي صدوق ثقة إلا في روايته عن سفيان الثوري، فهو كثير الغلط عنه لأنه سمع منه وهو صغير. أبو إسحاق السَبيعي قال فيه ابن حجر: ثقة مكثر اختلط بآخره]. فهذا إسناد ضعيف.

وهذا الحديث مما تبين فيه وجه الخطأ، فهو معلول بالوقف وبالمخالفة في اللفظ، إذ رواه قبيصة مرفوعا بهذا اللفظ ورواه اثنان من الثقات عن سفيان موقوفا وبلفظ مغاير، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة [17486] عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا على عبد الله بن مسعود أنه قال: "من رأى منكم امرأة فأعجبته فليواقع أهله، فإن معهن مثل الذي معهن". فازداد هذا الحديث بذلك وهنا على وهن.

وروى يحيى بن سعيد القطان وأبو نعيم الفضل بن دكين عن سفيان هذا الحديث بمثل رواية وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عنه، كما ذكره البيهقي في شعب الإيمان [5053]، وأشار البيهقي كذلك إلى أن إسرائيل بن يونس روى الحديث عن جده أبي إسحاق بمثل رواية قبيصة، لكن إسرائيل لم يتوقف عن السماع من جده بعد اختلاطه، فيُخشى أن تكون مما سمعها منه بعد الاختلاط.

* ـ وأما حديث أنس فرواه الطبراني في مسند الشاميين [2573] من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس مرفوعا به نحوه. [سعيد بن بشير الأزدي البصري الشامي ضعيف مات سنة 169]. فالسند ضعيف.

* ـ وأما حديث أبي كبشة فرواه ابن حنبل [18028] والطبراني في المعجم الكبير [848 من الجزء 22] وفي المعجم الأوسط [3251] وفي مسند الشاميين [2047]، من ثلاثة طرق عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحَرازي عن أبي كبشة الأنماري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله، قد كان شيء؟!. قال: "أجلْ، مرتْ بي"، فلانة، "فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال". ورواه عبدُ الملك بن حبيب في كتاب أدب النساء [86] عن معاوية بن صالح به.

[معاوية بن صالح وثقه عدد من الأئمة، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. أزهر الحَرازي كان ناصبيا يسب عليا رضي الله عنه، وثقه العجلي ومحمد بن وضاح، وذكره ابن حبان وابن خلفون في الثقات، وهؤلاء من المتساهلين في التوثيق، وقال أبو الفتح الأزدي: يتكلمون فيه. وذكره ابن الجارود في كتاب الضعفاء]. فهذا إسناد ضعيف.

* ـ وأما مرسل عبد الله بن حبيب فرواه ابن أبي شيبة [17484] عن وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن أبي حَصين عن عبد الله بن حبيب مرفوعا مرسلا به نحوه. وعنده "فرجع إلى أم سلمة وعندها نسوة يَدُفْنَ طيبا". [أبو حَصين عثمان بن عاصم كوفي ثقة ربما دلس الإسناد مات سنة 128. عبد الله بن حبيب كوفي تابعي ثقة مات سنة 72 تقريبا]. داف الطيبَ يدُوفه دَوفا: خلطه.

ورواه ابن أبي شيبة [17485] عن عبد الرحيم بن سليمان عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حبيب به مرفوعا مرسلا كذلك. والظاهر أن عبد الرحيم بن سليمان وهم في تسمية شيخ سفيان هنا، فجعله عن أبي إسحاق بدلا من أن يكون عن أبي حَصين، وعبد الرحيم بن سليمان ثقة فيه لين ووكيع ثقة متقن. والحديث على كلا الحالين مرسل، والمرسل ضعيف.

* ـ وأما مرسل سالم بن أبي الجعد فرواه ابن أبي شيبة [17487] عنه مرفوعا به نحوه. [سالم بن أبي الجعد تابعي ثقة]. وهذا حديث مرسل، والمرسل ضعيف.

* ـ درجة الحديث:

أسانيده ضعيفة، ولا يرتقي باجتماع هذه الطرق لمرتبة الحسن لما فيه من الغرابة التي هي الشذوذ، فقد اختل فيه الشرط الثالث من شروط الحديث الحسن التي نص عليها الإمام الترمذي رحمه الله، فهو ضعيف.

* ـ أصل هذا الحديث:

روى مسلم [3390] وأبو نعيم في المستخرج [3244] من طريق معقل بن عبيد الله الجزري، وابنُ حنبل [14672، 14744] من طريق عبد الله بن لهيعة، وابنُ حبان [5573] من طريق ابن جريج، ثلاثتهم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في قلبه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد ما في نفسه".

الظاهر أن هذه الرواية هي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن راويا ما ركَّب عليها الرواية الضعيفة التي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته، وأن تلك الرواية تسربت بعد ذلك إلى الرواة الضعفاء فتناقلوها وروَوها عن عدد من الصحابة، وأن أبا الزبير سمعها من واحد منهم يرويها عن جابر فرواها عنه، وهو معروف بتدليس الإسناد، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 13/ 4/ 1437، الموافق 23/ 1/ 2016، سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.

 

  

الثلاثاء، 4 أبريل 2023

حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف"

بسم الله الرحمن الرحيم


حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف"


إحدى روايات هذا الحديث هي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلة والصَّغَار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم". فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟. 

* ـ هذا الحديث له عدة روايات من حيث الإسناد، فأستعرضها فيما يلي:

الرواية الأولى:

هذا الحديث رواه عبد الله بن المبارك في الجهاد [105]، ورواه ابن أبي شيبة [19783، 33681] عن عيسى بن يونس، وابنُ أبي شيبة كذلك [33682] عن وكيع عن سفيان الثوري، ثلاثتهم عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس اليماني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله بعثني بالسيف...". الحديث. 

[الأوزاعي ثقة إمام مات سنة 157. سعيد بن جبلة ضعيف، قال محمد بن خفيف الشيرازي الدمشقي المتوفى سنة 371: ليس هو عندهم بذاك. طاوس بن كيسان تابعي ثقة]. فهذا الإسناد ضعيف جدا، لأنه اجتمع فيه أكثر من سبب للتضعيف. 

وهذه الرواية هي الثابتة عن الإمام الأوزاعي، إذ رواها عنه ثلاثة من الرواة الثقات، عبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس وسفيان الثوري.

الرواية الثانية:

ورواه ابن أبي شيبة [19747] وابن حنبل [5114، 5115] وعبد بن حُميد [846] وابن الأعرابي في المعجم [1137] والطبراني في المعجم الكبير [14109] وفي مسند الشاميين [216] وتمام في الفوائد [770] والبيهقي في شعب الإيمان [1154] من طرق كثيرة عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

[عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان دمشقي ولد سنة 75 ومات سنة 165، قال فيه ابن حنبل في رواية: أحاديثه مناكير. وقال في رواية: لم يكن بالقوي في الحديث. وقال ابن معين في عدد من الروايات: ضعيف. وقال في رواية: لا شيء. وقال في رواية: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن شاهين في كتاب الضعفاء: ليس بشيء. وقال في كتاب الثقات: ليس به بأس. وقال ابن عدي: كان رجلا صالحا ويُكتب حديثه على ضعْفه. وضعَّفه ابن القيسراني في ذخيرة الحفاظ في عدة مواضع، ووثقه دُحيم وأبو حاتم وابن حبان، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ وتغير بأَخَرَة. حسان بن عطية دمشقي ثقة توفي بعد سنة 120. أبو المنيب الجرشي دمشقي وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وهما من المتساهلين في التوثيق]. فهذا إسناد ضعيف. 

الرواية الثالثة:

ورواه الطحاوي في مشكل الآثار [231] عن أبي أمية الطرَسوسي عن محمد بن وهب بن عطية، وابنُ حِذْلَم [31] من طريق هشام بن عمار وغيره، كلهم عن الوليد بن مسلم أنه قال: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره بنحوه. 

[الوليد بن مسلم دمشقي ثقة فيه لين، كثير التدليس والتسوية في الأسانيد، مات سنة 195]. 

فهذا إسناد ضعيف، لأن فيه راويا ممن يدلس تدليس التسوية ولم يتسلسل الإسناد منه إلى الصحابي بما يدل على السماع. 

ثم إن هذه الرواية عن الأوزاعي معلولة، لأنها مخالفة لما رواه ثلاثة من الثقات عنه، كما تقدم في الرواية الأولى، إذ روَوه عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرفوعا مرسلا، وليس عن حسان بن عطية عن أبي منيب عن ابن عمر مرفوعا. 

ويحتمِل ـ إن كانت هذه الرواية ثابتة عن الوليد بن مسلم ـ أن تكون مما سمعه الأوزاعي من عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية فرواها من باب الاستغراب، وأن يكون الوليد بن مسلم سمعها من الأوزاعي على هذا الوجه وأسقط اسم عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان منها، وهذه صورة تدليس التسوية، وقد كان الوليد بن مسلم يفعل ذلك، وبذلك يرجع هذا الطريق إلى الطريق الثاني. 

الرواية الرابعة:

ورواه أبو أمية الطرسوسي في مسنده [56] عن يحيى بن عبد الله البابلتي، وذكره ابن أبي حاتم في العلل [956] عن عمرو بن أبي سلمة، كلاهما عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا به. 

[صدقة بن عبد الله السمين دمشقي ضعيف منكر الحديث، مات سنة 166]. فهذا إسناد ضعيف. 

ثم إن هذه الرواية عن الأوزاعي معلولة، لأنها مخالفة لما رواه ثلاثة من الثقات عنه، كما تقدم في الرواية الأولى، إذ روَوه عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرفوعا مرسلا، وليس عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا، وهي من تخليط صدقة بن عبد الله.

الرواية الخامسة: 

ورواه سعيد بن منصور في سننه [2370] عن إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

[إسماعيل بن عياش حمصي صدوق فيه لين فيما روى عن أهل بلده، مخلط في غيرهم. أبو عمير الصوري قال فيه أبو حاتم: كان من عباد الله الصالحين. ولم يذكر شيئا عن مدى ضبطه وتيقظه، والسند مرسل، ومراسيل الحسن البصري مشهورة بالضعف]. فهذا السند ضعيف جدا لأن فيه أكثر من سبب للتضعيف.

* ـ قول إمامين من أئمة علم الحديث في هذا الحديث: 

سأل ابن أبي حاتم الرازي أباه عن حديث رواه عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة"، فقال: قال لي دُحيم: "هذا الحديث ليس بشيء، الحديثُ حديثُ الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم". [علل الحديث لابن أبي حاتم: 956].

دُحيم هو الإمام الفقيه الحافظ محدث الشام عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو الدمشقي، وقوله "الحديثُ حديثُ الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أن هذا هو الصواب في أسانيد هذا الحديث وأن ما عداه لا يصح، وقد أقره على هذا الإمام أبو حاتم الرازي أحد كبار أئمة علم العلل.

ـ مما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن البخاري ذكر فقرتين من هذا الحديث في صحيحه تعليقا بصيغة التمريض ولم يروه بالسند، فقال "باب ما قيل في الرماح، ويُذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم جُعل رزقي تحت ظل رمحي وجُعل الذلة والصَّغَار على من خالف أمري". وهو لا يذكر الحديث بصيغة التمريض غالبا إلا إذا كان ضعيف الإسناد عنده. 

* ـ الخلاصة:

حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف" طرقه شديدة الضعف، فلا يتقوى بعضها ببعض، ويبقى إسناد الحديث ضعيفا، والله أعلم. 

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 3 جمادى الثانية 1439، الموافق 19/2/2018، سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.

حوار وتعليق - طول العمر

روى ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشدَّ اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟. أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض". 

هذا الحديث له عدة أسانيد، وكنتُ قد بينت أنها كلها ضعيفة، وأن هذا الحديث لا يرتقي بمجموع تلك الطرق لأنه شاذ منكر.  

وهذا بعض ما قلته فيه:  

وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:  

ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجاتٍ منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.  

وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.  

فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، بينما تفضل رواياتُ هذا الحديث مَن لم يجاهد وعاش زيادة سنةٍ بصلاتها وصيامها على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا في العبادة!.  

ـ في هذه الروايات تفضيل من صحبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.  

وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار طول العمر على معيار البذل والتضحية والإخلاص والبشارة بالجنة!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.  

قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل ذلك المعيار المنحرف!، وإلى الله المشتكى.  

قال أحد الإخوة جزاه الله خيرا: الحديث ليس فيه تفضيل لهما على طلحة رضي الله عنهم أجمعين، الأمر هو أنه لم يُؤذن له بالدخول لأنه بقي حيا بعد هذه الرؤيا فقيل له ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد، فإذا مات أُذن له، ولم تُذكر درجته في هذا الحديث. 

أقول: 

هذا الكلام مبني على أن ذينك الأخوين قد دخلا الجنة حقيقة في الوقت الذي كان فيه طلحةُ رضي الله عنه ما يزال في الدنيا!، وهذا خلل كبير، لأن دخول الجنة يسبقه مراحل، ولا بد من عرْض الأعمال والحساب، ثم يدخل المؤمنون الذين عملوا الصالحات الجنة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وأحبابنا منهم أجمعين. 

أمَّا قبل الحساب فكيف تمَّ لهما دخول الجنة؟!.  

ثم إن الذي عاش بعد أخيه سنة ـ حسب هذه الرواية ـ قد سبق أخاه في دخول الجنة على الرغم من أن أخاه هو أشد اجتهادا منه في العبادة وهو من المجاهدين الذين رُزقوا الشهادة في سبيل الله!. 

الرؤيا التي رآها طلحة رضي الله عنه ـ حسب هذه الرواية ـ تصف حاله وحال ذينك الرجلين في الآخرة عند دخول الجنة، لكنها تجعل السابق في دخول الجنة هو الأخ الأقل اجتهادا في العبادة الذي لم يشارك في الجهاد ولم يُرزق الشهادة!، لأنه عاش بعد أخيه سنة وقد صلى فيها وصام، يليه الأخ الأشد اجتهادا في العبادة والذي جاهد واستُشهد!، يليه طلحة بن عبيد الله المجاهد الذي كانت يده شلاء لأنه وقى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد!.  

هذه الرواية منكرة نكارة شديدة، والظاهر أنها موضوعة. 

من آثار هذه الرواية أن الإخوة والأقران إذا رأيت واحدا منهم قد عاش بعد أقرانه سنة واحدة وقد صلى فيها وصام هو أفضل من أقرانه الذين سبقوه بالعبادة والفضائل!، وكذلك العلماء والأئمة!. 

وكذلك أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم!، إذا أردت أن تعرف الأفضل فهذه الرواية تعطيك ميزانا تقيس به، هو الذي يعيش أكثر من غيره بسنة يصلي فيها ويصوم!، فإذا عاش أكثر من غيره بعشر سنين أو بعشرين فالظاهر منها أنه قد سبق غيره بكثير!، حتى مَن كان أشد اجتهادا في العبادة!، وحتى مَن رُزق الشهادة في سبيل الله!، وحتى إذا كان من المبشرين بالجنة!. وإلى الله المشتكى.  


الجمعة، 24 مارس 2023

فرض الكفاية بين الضرورة و الحاجة


قال إمام الحرمين في مبحث فروض الكفايات: "ما يتعلق بالأبدان: ستر العراة وإطعام الجائعين وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة ففرض على الكافة القيام به، ثم اختلف فيما فوق سد الضرورة إلى تمام الكفاية، فقال قائلون يتحتم الكفاية في ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة، وقال آخرون المفروض على الكفاية إزالة الضرورة، وما ذكرناه: بعد تفريق الصدقات على المستحقين وبعد أن يشغر بيت المال عن السهم المرصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرض الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة". [نهاية المطلب في دراية المذهب: 17/ 394]. 

وقال أبو حامد الغزالي: "يصير الفرض على الكفاية لا على التعيين إذا كان الشيء مقصود الحصول في نفسه للشرع ولم يكن الشخص مقصودا بالامتحان، ...، القسم الثاني ما يتعلق بالمعاش، كدفع الضرر عن محاويج المسلمين وإزالة فاقتهم، فإن بقيت ضرورةٌ بعد تفرقة الزكوات كان إزالتها من فرض الكفاية، وإن بقيت حاجة ففي وجوب إزالتها تردد". [الوسيط: 7/ 6].  

قلت: ينبغي التنبه للفرق بين الضرورة والحاجة.  

وقال الرافعي: "منها ما يتعلق بمصالح المعاش وانتظام أمور الناس: كدفع الضرر عن المسلمين وإزالة فاقتهم، كستر العارين وإطعام الجائعين وإعانة المستغيثين في النائبات، وكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تفِ الصدقات الواجبة بسد الحاجات ولم يكن في بيت المال من سهم المصالح ما يُصرف إليها، فإذا انسدت الضرورة فيكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟، حكى الإمام فيه وجهين لأصحاب الأصول". [فتح العزيز في شرح الوجيز: 11/ 354]. ونقله النووي مع الإقرار. [روضة الطالبين: 10/ 221]. 

وقال ابن تيمية وابن مفلح: "يجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية". [مجموع الفتاوى: 7/ 316. الفروع لابن مفلح: 4/ 307]. 

أقول مستعينا بالله تعالى:  

هناك فرق واضح بين الضرورة والحاجة، والظاهر أن الوقت لا يخلو عن المضطرين وعن المحتاجين، وأن إغناء أهل الحاجة عن المسألة هو من المكارم، أما سد خَلة أهل الضرورات فهذا فرض كفاية على أهل اليسار، إذا قام به بعضهم فذاك، وإلا حنثوا وأثموا جميعا، والله أعلم.  

ومما يُستأنس به في هذا قول الله عز وجل {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}، قال القرطبي: "العفو: ما سهل وتيسر وفضل ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سَورتي حين أغضبُ، فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية". 

وذكرت هنا أن الآية الكريمة يُستأنس بها لما رجحته ولم أقل يُستدل بها، وذلك لأن أهل التفسير لم يتفقوا على هذا المعنى، لكنه هو الذي أراه الأقرب من حيث اللغة، والله أعلم.  

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 30 شعبان 1444، الموافق 22/ 3/ 2023، والحمد لله رب العالمين.  

الجمعة، 3 فبراير 2023

القراءة على الشيوخ أو أخذ الإجازة لتحصيل اتصال السند

 

* ـ كثيرون من طلاب العلم اليوم يحرِصون على أن يكون عندهم إسناد متصل برواية الأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أن العلماء الكبار كانوا يقرؤون كتب الحديث على شيوخهم بغية اتصال الإسناد، وأنهم كانوا إذا فاتتهم القراءة اكتفَوا بأخذ الإجازة من الشيوخ ليتصل الإسناد عن طريقهم.

نشطتْ حركة القراءة على الشيوخ والحصولِ على الإجازات منذ بضعة عقود من الزمان، إذ يشتري الراغبون في اتصال الإسناد لبعض كتب الحديث الشريف برسول الله صلى الله عليه وسلم نسخةً من السوق ليقرؤوها على شيخ عنده بها إجازة، أو كان قد حصَّل نسخة وقرأها على أحد شيوخه الذي كان له بها إجازة من أحد الشيوخ.

* ـ كان بعض الشيوخ ينص في الإجازة المقرونة بالقراءة أو غير المقرونة بها على أن هذه الإجازة على الشرط المعتبر عند أهل الحديث، والشرط المعتبر عند أهل الحديث لا بد منه حتى ولو لم ينصَّ المجيز في الإجازة على ذلك، كما سيأتي بعون الله.

لا بد هنا من أن نتساءل: ما الشرط المعتبر عند أهل الحديث؟:

* ـ قال الإمام الترمذي المتوفى سنة 279 رحمه الله في كتاب العلل الصغير الذي بآخر كتاب السنن: "القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله فيما يُقرأ عليه إذا لم يحفظ: هو صحيح عند أهل الحديث مثل السماع". [سنن الترمذي بتحقيق بشار عواد معروف: 6/ 246. شرح علل الترمذي لابن رجب: 1/ 499].

* ـ قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم المتوفى سنة 327 وهو ابن الإمام الحافظ أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277 رحمهما الله في كتابه الجرح والتعديل: سمعت أبي ذكرَ عبدَ الحميدِ بنَ إبراهيم فقال: "ذكِر أنه سمع كتب عبد الله بن سالم عن الزُبَيدي، إلا أنها ذهبت كتبه، فقال لا أحفظها، فأرادوا أن يعْرضوا عليه فقال لا أحفظ، فلم يزالوا به حتى لان، فحدثهم بها، وليس هذا عندي بشيء، رجل لا يحفظ وليس عنده كتب؟!!". [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6/ 8].

* ـ قال الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم المتوفى سنة 405 رحمه الله في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل: "الطبقة الثامنة مِن المجروحين قومٌ سمعوا كتبا مصنفة من شيوخ أدركوهم ولم ينسخوا أسماعهم عند السماع، وتهاونوا بها إلى أن طعنوا في السن وسئلوا عن الحديث، فحملهم الجهل والشره على أن حدثوا بتلك الكتب من كتبٍ مشتراةٍ ليس لهم فيها سماع وهم يتوهمون أنهم في رواياتهم صادقون!". [المدخل إلى كتاب الإكليل: ص 65].

قف عند قوله "مِن كتب مشتراة"، فقد كانوا يخافون من وقوع اختلافات بين النسخ، أما وقوع التحريف والزيادة فهي طامات.

ثم قال: "الطبقة العاشرة من المجروحين قوم كتبوا الحديث ورحلوا فيه وعُرفوا به فتلفت كتبهم بأنواع من التلف، فلما سُئلوا التحديثَ حدثوا بها من كتب غيرهم أو من حفظهم على التخمين، فسقطوا بذلك، منهم عبد الله بن لهيعة الحضرمي على محله وعلو قدره". [المدخل إلى كتاب الإكليل: ص 67].

* ـ قال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: "يجب على من كتب نسخة من أصلِ بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل، فإن ذلك شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/ 275].

قلت: إذا كان من الواجب على من كتب نسخة من أصل بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل وهو شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع فما حكم من يصحح الرواية بإجازة عن إجازة عن إجازة وهلم جرا وليس هناك نسخة الأصل ولا نسخة منسوخة عنها ليُقال هل هي معارَضة ومقابَلة بها أو لا؟!. لا شك في أن الرواية بمثل هذا لا تفيد شيئا في باب اتصال الإسناد.

* ـ روى الإمام الحافظ المعمَّر أبو عمر يوسف بنُ عبدِ الله ابن عبد البر المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم عن عبد اللّه بن عمر العمري أنه قال: "كنت أرى الزهري يأتيه الرجل بالكتاب لم يقرأه عليه ولم يُقرأ عليه فيقول له: أرويه عنك؟. قال: نعم".

وعلق ابن عبد البر على هذا فقال: "هذا معناه أنه كان يعرف الكتاب بعينه ويعرف ثقة صاحبه ويعرف أنه من حديثه، وهذه هي المناولة، وفي معناها الإجازة إذا صحَّ تناوله ذلك". [جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1155].

وقال ابن عبد البر: "اختلف العلماء في الإجازة، فأجازها قوم وكرهها آخرون، وفيما ذكرنا في هذا الباب دليل على جوازها إذا كان الشيء الذي أجيز به معينا ومعلوما محفوظا مضبوطا وكان الذي تناوله عالما بطرق هذا الشأن، وإن لم يكن ذلك على ما وصفتُ لم يُؤمن أن يحدث الذي أجيزَ له عن الشيخ بما ليس من حديثه، وقد رأيت قوما وقعوا في مثل هذا، وما أظن الذين كرهوا الإجازة كرهوها إلا لهذا".

ثم قال: "وتلخيص هذا الباب أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة حاذق بها يعرف كيف يتناولها وتكونَ في شيء معين معروف لا يشْكل إسنادُه، فهذا هو الصحيح من القول في ذلك". [جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1158، 1159].

قلت: رحم الله الإمامَ الحافظ ابن عبد البر رحمة واسعة، وتأملْ يا طالب العلم حال أبناء الزمان!.

* ـ قال الإمام الحافظ القاضي عياض المتوفى سنة 544 رحمه الله في كتابه الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع في بيان أنواع تلقي الحديث عن الشيخ:

"الضرب الثاني: القراءة على الشيخ، وسواء كنتَ أنت القارئَ أو غيرُك وأنت تسمع أو قرأتَ في كتاب أو من حفظ وكان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله، ولا خلاف أنها رواية صحيحة". [الإلماع للقاضي عياض: ص 70]. ومن قرأ هذا النص قائلا "أو كان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله" فقد وهِم.

قلت: أي لا بد لصحة القراءة على الشيخ من أن يكونَ الشيخ ممن يحفظ ما يُقرأ عليه أو يكونَ ممسكا كتابه الذي سمع فيه من شيخه فيما إذا لم يكن يحفظ ما يُقرأ عليه، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فإن القراءة عليه هباء لا يُعتد بها عند أهل العلم.

ثم قال: "الضرب الثالث: المناولة، وهي أيضا على أنواع: أرفعها أن يدفعَ الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخةً منه وقد صححها فيقولَ للطالب هذه روايتي فارْوها عني، أو يأتيَه الطالب بنسخة صحيحة من رواية الشيخ أو بجزء من حديثه فيقفَ عليه الشيخ ويعرفـَه ويحققَ جميعه وصحته ويجيزَه له، فهذا كله عند مالك وجماعة من العلماء بمنزلة السماع". [الإلماع للقاضي عياض: ص 79].

ثم قال: "مِن المناولة أن يعرض الشيخ كتابه ويناولَه الطالبَ ويأذنَ له في التحديث به عنه ثم يمسكـَه الشيخ عنده ولا يمكِّنَه منه، فهذه مناولة صحيحة أيضا تصح بها الرواية والعمل، لكن بعد وقوع كتاب الشيخ ذلك للطالب بعينه أو انتساخه نسخةً منه أو تصحيحِ كتابه متى أمكنه بكتابه أو بنسخة وثق بمقابلتها به".  [الإلماع للقاضي عياض: ص 82 ـ 83].

ثم ذكر وجها من أوجه الإجازة المختلَف في صحتها وبيَّن صحته إذا تحقق فيه شرطان فقال: "الوجه الثاني: أن يجيز لمعيَّن على العموم والإبهام دون تخصيص ولا تعيين لكتب ولا أحاديث، كقوله قد أجزت لك جميع رواياتي أو ما صح عندك من رواياتي، فهذا الوجه هو الذي وقع فيه الخلاف تحقيقا، والصحيح جوازه وصحة الروايةِ والعملِ به بعد تصحيح شيئين: تعيينِ روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها، وصحةِ مطابقة كتب الراوي لها". [الإلماع للقاضي عياض: ص 91 ـ 92].

قلت: قف عند قوله "وصحةِ مطابقةِ كتب الراوي لها".

ثم روى القاضي عياض رحمه الله من طريق أبي ذر الهروي أنه قال: أخبرنا أبو العباس المالكي قال: "لمالكٍ شرطٌ في الإجازة: أن يكون الفرع معارَضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما بما يجيز ثقة في دينه وروايته معروفا بالعلم، وأن يكون المُجاز من أهل العلم متسِما به حتى لا يضع العلمَ إلا عند أهله، وكان يكرهها لمن ليس من أهله". [الإلماع للقاضي عياض: ص 94 ـ 95].

[أبو العباس المالكي هو الوليد بن بكر بن مخلد الغمري، أندلسي سَرَقُسْطي ثقة مات سنة 392، قال عنه الحُميدي في جذوة المقتبس وابن عساكر في تاريخ دمشق: ألـَّف في تجويز الإجازة كتابا سماه كتاب الوجازة، وسمع منه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ وأبو ذر عبد بن أحمد الهروي].

ثم قال: "أما الشرطان الأولان فواجبان على كل حال، في السماع والعرض والإجازة وسائر طرق النقل، إلا اشتراط العلم فمختلف فيه". [الإلماع للقاضي عياض: ص 95].

قلت: قف عند قوله "أن يكون الفرع معارَضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما بما يجيز"، وعند قولِه "أما الشرطان الأولان فواجبان على كل حال في السماع والعرض والإجازة وسائر طرق النقل".

ثم قال القاضي عياض: "الذي ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه يجب أن لا يحدث المحدثُ إلا بما حفظه في قلبه أو قيَّده في كتابه وصانه في خزانته، فيكون صونُه فيه كصونه في قلبه، حتى لا يدخله ريب ولا شك في أنه كما سمعه، وكذلك يأتي لو سمع كتابا وغاب عنه ثم وجده أو أعاره ورجَع إليه وحقق أنه بخطه أو الكتابُ الذي سمع فيه بنفسه ولم يرْتبْ في حرف منه ولا في ضبط كلمة ولا وجد فيه تغييرا، فمتى كان بخلاف هذا أو دخله ريبٌ أو شكٌّ لم يجز له التحديث بذلك، إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدَّث بما لم يحقق أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخشى أن يكون مغيرا فيدخلَ في وعيد من حدث عنه بالكذب وصار حديثه بالظن، والظن أكذب الحديث". [الإلماع للقاضي عياض: ص 135].

ثم قال: "إذا صح الخبر والرواية كما قدمنا بالعرض أو المناولة أو الإجازة لم تضرَّ المسامحة في القراءة، إذ هي شيء زائد على جواز ما تقدم إذا صحت المعارضة بالأصول والمقابلة بكتاب الشيخ". [الإلماع للقاضي عياض: ص 142].

ثم قال: "أما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها، ولا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل وتكون مقابلته لذلك مع الثقة المأمون". [الإلماع للقاضي عياض: ص 158 ـ 159].

أقول:

قول القاضي عياض رحمه الله في القراءة على الشيخ "سواءٌ كنتَ أنت القارئَ أو غيرُك وأنت تسمع أو قرأتَ في كتاب أو من حفظ وكان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله ولا خلاف أنها رواية صحيحة": يعني أن الشيخ إذا كان في حال القراءة عليه لا يحفظ ما يُقرأ عليه ولا يمسك أصله فالرواية عنه بهذه القراءة غير صحيحة، وهذا إذا كان هو في الأصل قد أخذ الرواية عن شيخه من أصل مصحَّح أو فرع قوبل على ذلك الأصل، فإذا لم يكن عنده أصل مصحَّح أو فرع قوبل على ذلك الأصل فالرواية عنه غير صحيحة من باب أولى. فتنبه، رعاك المولى.

وتأملْ قوله "أما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها ولا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل".

أقول: هذا هو الواجب على المسلم التقي في باب الرواية، وهو مقابلة نسخته بأصل السماع ومعارضتُها به، لأنه لا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل، فمن لم يكن يعلم ذا ولم يلتزم به في هذا الباب فعليه إصلاحُ ما تقدم منه وتداركُ ما فاته، وإلا فقد فاتته رتبة المسلم التقي.

وأقول: رحم الله الإمامَ الحافظ عياض بن موسى رحمة واسعة.

* ـ قال الحافظ السِلَفي أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الأصبهاني المعمَّر المتوفى سنة 576 في كُتَيِّبه شرط القراءة على الشيوخ: "إما أن يكون الراوي عارفا بما يرويه عالما بالذي يؤديه أو غير عارف بذلك ولا عالم: فإن كان عالما وبحديثه عارفا فاستماعه إلى القارئ وإقراره بالمقروء عليه بقوله نعمْ أو ما في معناه مغْنٍ عما عداه، سواء كان القارئُ من أهل المعرفة بدقائق المحدثين أو لم يكن بها من العارفين أو قرأه من الأصل أو من الفرع المنسوخ منه، فإنه يعرف حديثه ويردُّ عليه الخطأ والتصحيف، وإن كان الراوي شيخا صحيح السماع إلا أنه لا يعرف حديثه فالاعتماد في روايته على المفيد عنه لا عليه، يقلده السامعون فيما يقرؤه وينتخبه بعد تيقنهم أنه ثقة عارف بحديث الشيخ، إلا أنه مع ذلك كله لا يستغني عن إعلام الشيخ حال القراءة أن الجزء عمن سمعه ومَن الذي به حدثه؟، وقراءتُه عليه من أصل سماعه أو من فرعه المنقول من الأصل المقابَل به: سيان، وكذلك قراءته عليه من الفرع المكتوب من الأصل قبل المقابلة وأحدُ الحفاظ المبرزين ينظر فيه ويضبط له حتى يصححه: بمثابة القراءة من الأصل أو الفرع المقابَل المصحَّح، إذ القصد من ذلك كله حصول السماع على وجه الصحة". [شرط القراءة على الشيوخ: ص 43 ـ 46].

وقال في كتابه الوجيز في ذكر المُجاز والمجيز: "اعلمْ أن الإجازة جائزة عند فقهاء الشرع وعلماء الحديث، قرنًا فقرنًا وعصرا فعصرا إلى زماننا هذا". [ص 53].

ثم قال: "في الإجازة كما لا يخفى دوامُ ما قد رُوي وصح من أثر، ويجب التعويل عليها والسكون أبدا إليها، من غير شك في صحتها، إذ أعلى الدرجات في ذلك السماعُ ثم المناولة ثم الإجازة، ولا يُتصور أن يبقى كل مصنَّف على وجه السماع المتصل ولا ينقطعَ منه شيء بموت الرواة وفقْد الحفاظ الوعاة، فيُحتاج عند وجود ذلك إلى استعمال سبب فيه بقاء التأليف، فالوصول إذًا إلى روايته بالإجازة فيه نفع عظيم، إذ المقصود به إحكام السنن المروية في الأحكام الشرعية وإحياء الآثار على أتم الإيثار، سواء كان بالسماع أو القراءة أو المناولة أو الإجازة، لكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان، والتوقي من الزيادة والنقصان، وأنْ لا يُعوَّل فيما يُروى عن الشيخ بالإجازة إلا على ما يُنقل من خط مَن يُوثق بنقله ويُعول على قوله". [ص 54 ـ 55].

أقول:

قوله "لكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان وأنْ لا يُعول فيما يُروى عن الشيخ بالإجازة إلا على ما يُنقل من خط مَن يُوثق بنقله" يعني أن مِن شرْط صحة الرواية بالإجازة المبالغةَ في الضبط والإتقان في الجزء أو الكتاب الذي يجيز الشيخ للطالب أن يرويه عنه، وهذا يقتضي أن يكون هناك من ذلك الجزء الحديثي أو الكتاب الذي يريد الشيخ أن يجيز للطالب روايته عنه نسخةٌ مسموعة مضبوطة متقنة متداوَلة بأيدي الشيوخ فيستعيضَ الشيخُ عن القراءة بأن يجيز الطالبَ رواية ذلك الجزء أو الكتاب عنه.

ولو كان المراد غير هذا لكان اشتراطُ أن يكون السماع في القراءة على الشيخ من أصل النسخة المقروءة أو من فرع قوبل على ذلك الأصل وإباحةُ الإجازة دون مثل ذلك الاشتراط نوعا من العبث، فتدبر.

* ـ ذكر الإمامُ الحافظ محمد بنُ عبدِ الغني ابنُ نقطة البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 629 رحمه الله أحدَ الرواة في كتابه التقييد وقال عنه: "رحل إلى نيسابور، وسمع من القاضي أبي بكر أحمد بن الحسن الحيري، وكان سماعه منه صحيحا، غير أنه أفسد نفسه بكونه يتساهل بالتحديث من غير أصل". [التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: ص 53 ـ 54].

قلت: فالشيخ الذي يحدث الناس من غير أصل ـ أي من غير نسخة متلقاة بالسماع أو من نسخة منقولة عنها ومقابَلة بها من ثقة عارف ـ فقد أفسد نفسه وأفسد الغرض الذي اجتمع لأجْله من يقرؤون عليه.

* ـ قال الإمام الفقيه عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643 في كتابه معرفة أنواع علم الحديث في النوع الثالث والعشرين وهو معرفة صفة من تُقبل روايته ومن تُرد روايته: "لا تُقبل رواية من عُرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن يحدث لا من أصل مقابَل صحيح، وهذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه". [ص 119].

ثم قال: "أعرض الناسُ في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بيَّنَّا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، فلْيُعتبرْ من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض، ولْيُكتفَ في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخطِّ غير متهَم، وبروايته من أصلٍ موافِقٍ لأصل شيخه". [ص 120].

ثم قال: "المناولة المقرونة بالإجازة لها صور: منها: أن يدفعَ الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابَلا به ويقولَ هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني أو أجزتُ لك روايته عني ثم يملـِّكَه إياه أو يقولَ خذه وانسخه وقابلْ به ثم ردَّه إلي أو نحوُ هذا، ومنها: أن يجيءَ الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضَه عليه فيتأملَه الشيخ وهو عارف متيقظ ثم يعيدَه إليه ويقولَ له وقفتُ على ما فيه وهو حديثي عن فلان أو روايتي عن شيوخي فاروه عني أو أجزت لك روايته عني، ومنها: أن يناول الشيخُ الطالبَ كتابه ويجيزَ له روايته عنه ثم يمسكَه الشيخ عنده ولا يمكِّنَه منه، فهذا يتقاعد عما سبق، لعدمِ احتواء الطالب على ما تحمَّله وغيبتِه عنه، وجائز له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب أو بما هو مقابَل به على وجهٍ يثق معه بموافقته لِما تناولتْه الإجازة على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة، ومنها: أن يأتيَ الطالبُ الشيخَ بكتاب أو جزء فيقولَ هذا روايتك فناولنيه وأجز لي روايته فيجيبَه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه ويتحققَ روايته لجميعه، فهذا لا يجوز ولا يصح، فإن كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته جاز الاعتماد عليه في ذلك وكان ذلك إجازة جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتمادُ على الطالب حتى يكون هو القارئَ من الأصل إذا كان موثوقا به معرفة ودينا". [ص 165 ـ 166].

قوله "إذا ظفر بالكتاب" أي إذا ظفر بكتاب الشيخ، أي نسخة الشيخ، كما هو ظاهر.

* ـ قال الحافظ عبدُ الرحمن بنُ أحمدَ ابنُ رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 795 رحمه الله في كتابه شرح العلل: [اشترط الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكونَ العالم حافظا لما يُعرض عليه أو يمسكَ أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظا، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يكن المعروض عليه حافظا ولا أمسك أصله أنه لا تجوز الرواية عنه بذلك العرض، ورخـَّص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا يحفظ، وهذا إذا كان الخط معروفا موثوقا به والكتاب محفوظا عنده]. [شرح علل الترمذي لابن رجب: 509 ـ 512].

أقول: رحم الله ابن رجب رحمة واسعة.

* ـ هذا وقد ضعَّف الأئمة المحدثون عددا من الرواة بسبب روايتهم عن شيوخهم من نسخٍ غيرِ مقابَلة على الأصل، ومن أمثلة ذلك:

قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: ذكرَ أبِي محمدَ بنَ كثير المصيصي فضعَّفه جدا وقال: "سمع من معْمر باليمن، ثم بعث إلى اليمن فأخذها فرواها". وقال: "هو منكر الحديث". [العلل ومعرفة الرجال لابن حنبل رواية ولده عبد الله: 3/ 251]. ونقله عنه مع الإقرار: البخاريُّ في التاريخ الكبير والترمذي في العلل الكبير.

وقال ابن حبان في كتاب المجروحين: "عمر بن حفص أبو حفص العبدي كان ممن يشتري الكتب ويحدث بها من غير سماع، قال يحيى بن معين: أبو حفص العبدي ليس بشيء". [كتاب المجروحين لابن حبان: 12/ 55 ـ 56].

وانظر ـ على سبيل المثال ـ ما قالوه في إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس وعبد الله بن لهيعة وهشام بن عمار والوليد بن محمد المُوَقـَّري.

* ـ قد يقول قائل: هل لعدم تحقق ذلك الشرط المعتبر عند أهل الحديث أي أثر في نقل الأحاديث النبوية؟!.

أقول: نعم، لأننا إذا نقلنا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسخة مشتراة من السوق اعتمادا على الرواية بالإجازة التي لم يتحقق فيها الشرط المعتبر عند أهل الحديث وكان في تلك النسخة خلل ما لأنها غيرُ نسخة الشيخ وليست مقابَلة على نسخته: فنكون قد عرَّضنا أنفسنا للدخول تحت قوله صلى الله عليه وسلم "مَن كذب عليَّ"، وكذلك فيما إذا كان ذلك الشيخ قد روى عن شيخه بمثل ذلك، وكذا شيخه عن شيخ شيخه، وهلم جرا.

* ـ فإن قيل: كيف يتحقق الاتصال في أسانيد الأحاديث والروايات اليوم إذا لم نجد اتصال الرواية بالقراءةِ على الشيوخ أو الإجازةِ بالشرط المعتبر عند علماء الحديث؟.

قلت: اتصال الأسانيد اليوم هو بالاعتماد على الوجادة بشروطها، وذلك بما نجد من النسخ المخطوطة التي كتبها العلماء والوراقون الثقات الذين عُرفت خطوطهم وأثبت فيها الكاتب إسناده بالنسخة إلى المؤلف، مع التثبت من خط كاتب النسخة وصحة ذلك الإسناد.

وإذا لم يكن من المتيسر لكل طالب علم أن يراجع بنفسه المخطوطات فلا بد من الاعتماد على من رجع إليها وقابل نص الكتاب بالنسخ الموثقة إذا كان ثقة مأمونا عارفا بطرق التوثق من صحة النسخة.

وهذا هو الطريق الصحيح للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العصور التي انقطعت فيها القراءةُ على الشيوخ بشرطها المعتبر عند أهل الحديث، وكذا الإجازةُ بالشرط المعتبر كذلك، وليس الطريقُ الصحيح هو طريقَ القراءة والإجازة اللتين يعتمد عليهما كثير ممن يُسمَّون طلابَ العلم اليوم.

من آفات عدم المعرفة بالطريق الصحيح في التوثق من صحة النسخ الخطية أن يقال عمن جمع شيئا من تلك الإجازات العقيمة "العالم المسنِد"!، أو "المحدِّث المسنِد"!، وأن يُقال لمن يجيز غيره بمثل تلك الإجازات "المحدِّث المجيز"!، ولمن يُجاز بها "المُجاز برواية الحديث"!.

وقد حصل هذا في غفلة عن الشروط المعتبرة عند أهل العلم المحققين، والمهزلةُ التي نشهدها اليوم ماثلة للعيان!.

* ـ من الممكن أن يُستأنس للوجادة بما رواه ابن عرفة في جزئه [19] واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة [5/ 995] والبيهقي في دلائل النبوة [6/ 538] والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث [ص 32] وقوامُ السنة أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب [48]، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجبُ إليكم إيمانا؟". قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم عز وجل؟!". قالوا: فالنبيون؟!. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟!". قالوا: فنحن؟!. قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟!، ألا إن أعجب الخلق إليَّ إيمانا لقومٌ يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتب يؤمنون بما فيها".

إسناده ضعيف، وله شواهد ضعيفة الأسانيد عن عدد من الصحابة يرتقي بمجموعها لمرتبة الحديث الحسن، والله أعلم.

ـ أسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بحقائق ديننا، وبمنهج أئمتنا السابقين ومَن سار على طريقهم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، بلطفه ومنه وكرمه.

ـ وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 29/ 8/ 1441، الموافق 22/ 4/ 2020، والحمد لله رب العالمين.