الاثنين، 21 نوفمبر 2011

نداء إلى مشايخ المذهب الشافعي في حلب والبلدات السورية النائمة


وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في مجالس آخرها في 5/ 11/ 1432
ـ قال الشافعي في كتاب الأم وفي مختصر المزني: "فالباغي يقاتل الإمام العادل في أنه لا يعطي الإمام العادل حقا إذا وجب عليه ويمتنع من حكمه، ويزيد على مانع الصدقة أن يريد أن يحكم هو على الإمام العادل ويقاتله، فيحلُّ قتاله بإرادته قتالَ الإمام". ثم قال: "فإن كانت لأهل البغي جماعة تكثر ويمتنع مثلها بموضعها ونصبوا إماما وأظهروا حكما وامتنعوا من حكم الإمام العادل فهذه الفئة الباغية".
البغاة عند الإمام الشافعي هم الذين يخرجون على الإمام العادل، ومن المؤسف أن يصبح الحكم عند كثير من فقهاء مذهبه من بعده أن الذين يخرجون على الإمام الفاسق الظالم الجائر هم بغاة كذلك!.
وروى البيهقي في كتاب مناقب الشافعي قال: أخبرنا أبو عبد الله قال أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثني أبي قال حدثنا حرملة قال سمعت الشافعي يقول: كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يُسمى خليفة ويجمِع الناسُ عليه فهو خليفة. عبد الرحمن بن محمد هو ابن أبي حاتم الرازي ثقة حافظ. أبو أحمد بن أبي الحسن هو الدارمي ولم أجد له ترجمة.
وهذا النص لو ثبتت نسبته للشافعي فهو لا يعارض ما تقدم، لأنه لا يعني أكثر من تسمية المتغلب باسم الخلافة اضطرارا، ومراعاة لمصلحة الأمة في تثبيت الحقوق وعدم ضياعها.
وفي هذا المعنى يقول عز الدين بن عبد السلام في فتاويه: "من لا أهلية له من القضاة والولاة إذا حكموا بحق وأمروا به أو دفعوا منكرا ونهَوْا عنه فإننا ننفذه، تحصيلا لمصالح أهل الإسلام، فلا بد من تنفيذ ما يوافق الحق من تصرفاتهم، وكذلك تصرفات الملوك والولاة الجائرين".
وفيه يقول القلقشندي أحمد بن عبد الله المتوفى سنة 821 في كتابه مآثر الإنافة في معالم الخلافة: "الطريق الثالث من الطرق التي تنعقد بها الإمامة القهر والاستيلاء، فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة مَن جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ولا بيعةٍ من أهل الحل والعقد انعقدت إمامته، لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم، وإن لم يكن جامعا لشرائط الخلافة بأن كان فاسقا أو جاهلا فوجهان لأصحابنا الشافعية: أصحهما انعقاد إمامته أيضا، لأنا لو قلنا لا تنعقد إمامته لم تنعقد أحكامه، ويلزم من ذلك الإضرارُ بالناس من حيث إن من يلي بعده يحتاج أن يقيم الحدود ثانيا ويستوفي الزكاة ثانيا".
ـ قال أبو منصور البغدادي عبد القاهر بن طاهر المتوفى سنة 429 في كتاب أصول الدين في شروط الإمامة: "يُشترط فيها عدالة ظاهرة، فمتى أقام في الظاهر على موافقة الشريعة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سَننه عدل بهم أو عدل عنهم". وقوله "أو في العدول عنه إلى غيره" يعني أن لهم الحق في أن يستبدلوا به غيره.
ـ قال الماوردي علي بن محمد بن حبيب المتوفى سنة 450 في كتاب الأحكام السلطانية عن الإمام: "ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى فسْق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على مَن انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد".
ـ قال إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 478 في غياث الأمم في خلع الإمام إذا طرأ عليه الفسق: "فأما إذا تواصل منه العصيان وفشا منه العدوان وظهر الفساد وزال السداد وتعطلت الحقوق والحدود وارتفعت الصيانة ووضحت الخيانة واستجرأ الظلمة ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور وتعطل الثغور فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم".
وقال في الإرشاد: "وإذا جار والي الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم يَرْعَوِ عما زُجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب".
ـ صرح أبو سعيد عبد الرحمن بن مأمون المتولي المتوفى كذلك سنة 478 بأن الخروج على الجائر ليس بغيا، كذا ذكره عنه القاضي زكريا بن محمد القاهري الأنصاري المتوفى سنة 926 في أسنى المطالب شرح روض الطالب.
ـ قال أبو حامد الغزالي محمد بن محمد المتوفى سنة 505 في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: "فإن قيل: فإن كان المقصود حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الآراء ويمنع الخلق من المحاربة والقتال ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد؛ فلو انتهض لهذا الأمر مَن فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم فماذا ترون فيه؟ أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟. قلنا: الذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قُدِر على أن يُستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحُكم بإمامته". وقد أشار قبل ذلك إلى بعض شروط الإمامة، وهي الكفاية والعلم والورع وكونه قرشيا ، ويُشترط في القاضي زيادة على ذلك كونه وصل في العلم لدرجة الاجتهاد. والذي يجب خلعه إن قُدِر على أن يُستبدل عنه مِن غير إثارة فتنة وتهييج قتال هو الذي وُجدت فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ومع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم. فتنبه.
ـ قال الرافعي عبد الكريم بن محمد القزويني المتوفى سنة 623: "الباغي هو المخالف للإمام العادل". كذا نقله القاضي زكريا في شرح البهجة.
ـ قال سيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631 في كتابه غاية المرام في مبحث الإمامة: "ولهم أن يخلعوه إذا وُجد منه ما يوجب الاختلال في أمور الدين وأحوال المسلمين وما لأجله يُقام الإمام، وإن لم يقدروا على خلعه وإقامة غيره لقوة شوكته وعظم تأهبه وكان ذلك مما يفضي إلى فساد العالم وهلاك النفوس وكانت المفسدة في مقابله آكدَ من المفسدة اللازمة من طاعته: أمكنَ ارتكابُ أدنى المحذورين، دفعا لأعلاهما".
ـ قال عضد الدين الإيجي عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الشافعي المتوفى سنة 756 في كتابه المواقف: "وللأمة خلع الإمام بسبب يوجبه، وإن أدى إلى الفتنة احتُمل أدنى المضرتين".
ـ قال سعد الدين التفتازاني مسعود بن عمر الشافعي المتوفى سنة 791 في شرح العقائد النسفية في مبحث ما يُشترط في الإمام: "أن يكون سائسا أي مالكا للتصرف في أمور المسلمين بقوة رأيه ورويته ومعونة بأسه وشوكته، قادرا بعلمه وعدله وكفايته وشجاعته على تنفيذ الأحكام وحفظ حدود دار الإسلام وإنصاف المظلوم من الظالم، إذ الإخلال بهذه الأمور مخل بالغرض من نصب الإمام".
ـ قال ابن قاسم الغزي محمد بن قاسم بن محمد المتوفى سنة 918 في شرحه لمتن الغاية والتقريب في مبحث البغاة: "وهم فرقة مسلمون مخالفون الإمامَ العادل".
ـ لكن في مقابل قول إمام المذهب ومن وافقه نجد في الجهة الأخرى من الشافعيين مَن انحرف عن قول إمامه وقال بغيره:
ـ فقد صرح القفال بأن الخروج على الجائر بغي!، كذا ذكره القاضي زكريا في أسنى المطالب شرح روض الطالب. ونقل القاضي زكريا كذلك في شرح البهجة عن العمراني عن القفال أنه قال "وسواء كان إمامنا عادلا أم جائرا"!. والقفال هو إما القفال الشاشي محمد بن علي بن إسماعيل المتوفى سنة 365، وإما القفال المروزي عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 417.
ـ قال النووي في روضة الطالبين: "ولا تبطل ولاية الإمام الأعظم بالفسق، لتعلق المصالح الكلية بولايته، بل تجوز ولاية الفاسق ابتداء إذا دعت إليها ضرورة، لكن لو أمكن الاستبدال به إذا فسق من غير فتنة استُبدل، وفيه وجه أنها تبطل أيضا، وبه قطع الماوردي في الأحكام السلطانية، والصحيح الأول"!.
وقال: "الباغي في اصطلاح العلماء هو المخالف لإمام العدل الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره"!. وفسرها القاضي زكريا في شرح البهجة بقوله "أي لإمام أهل العدل"!.
وقال في شرح صحيح مسلم: "وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين"!!.
وقد تابع جمهور المتأخرين الإمامَ النووي رحمه الله في هذه المسألة!، منهم القاضي زكريا في شرح الروض وشرح البهجة وابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج وشمس الدين الرملي في نهاية المحتاج والخطيب الشربيني في مغني المحتاج والباجوري في حاشيته على شرح ابن قاسم الغزي!. قال الخطيب: "البغاة مخالفو الإمام ولو جائرا وهم عادلون، وما في الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل وكذا هو في الأم والمختصر مرادهم إمام أهل العدل"!.
يا مشايخ الشافعية المؤتمنين على دين الله تعالى:
أين أنتم عن فقه الشافعي وكبار فقهاء المذهب رحمهم الله؟!.
البغاة عند الإمام الشافعي وعند الموافقين له من أهل مذهبه هم الذين يخرجون على الإمام العادل، وليس الظالم الجائر، فمتى أقام الإمام في الظاهر على موافقة الشريعة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى زاغ عن ذلك كان من حق الأمة أن يستبدلوا به غيره، وارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى فسْق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها. ومن المؤسف أن يصبح الحكم عند كثير من فقهاء مذهبه من بعده أن الذين يخرجون على الإمام الفاسق الظالم الجائر هم بغاة كذلك!.
يا مشايخ الشافعية المؤتمنين على دين الله تعالى:
إن حاكم سوريا الآن بشار الأسد وزمرته وزبانيته قد جاوزوا الحد في الفساد والطغيان، وقد تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، ولذا فمن حق الأمة أن يخلعوه ويستبدلوا به غيره.
إن خلع زمرة الفساد والإفساد ليس بالأمر السهل، ولا بد فيه من تضحيات جسام، والضرر كبير وخطير في بقاء زمرة الفساد وكذا في خلعها، وإذا كان كذلك فلا بد من ارتكاب أدنى المحذورين وأخف المضرتين، ومهما كانت المضرة في التضحيات لاجتثاث هذه الطغمة الفاسدة فهو أقل ضررا من بقائها تعبث بالحرمات وتعيث في الأرض الفساد.
اثبتوا على الحق، واصبروا وصابروا، ولا تخذلوا ولا تثبطوا، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والحمد لله رب العالمين. 

الخميس، 10 نوفمبر 2011

"حديث "إلا أن تروا كفرا بواحا

حديث "إلا أن تروا كفرا بواحا"



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام النبيين وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.

هذه الكلمة "إلا أن تروا كفرا بواحا" رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في البيعة، وقد رُوي الحديث بدون الزيادة وبالزيادة.
فأما الحديث بدون الزيادة فرُوي من طريق الوليد بن عبادة وعُبيد بن رفاعة وخالد بن معدان وجُنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت:
ـ فأما طريق الوليد بن عبادة عن أبيه فرواه مالك في الموطأ والحميدي وعلي بن الجعد وابن أبي شيبة وأحمد وحميد بن زنجويه والبخاري ومسلم وابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة والنسائي وأبو عوانة والشاشي وابن حبان وغيرهم من طرق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده أنه قال: بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. وهذا إسناد صحيح.
ورواه أحمد وحميد بن زنجويه والشاشي من ثلاثة طرق عن محمد بن طلحة بن مصرف عن الأعمش عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه، وهذا منقطع بين الأعمش والوليد. ورواه البزار وأبو نعيم في أخبار أصبهان من طريقين عن بكر بن بكار وهو ضعيف عن حمزة بن حبيب الزيات عن الأعمش عن عمارة بن عمير وهو ثقة عن الوليد به، وهذا الطريق لا يُعتد به، لأن الذي أتى به موصولا ضعيف، وفي طريق عبادة بن الوليد عن أبيه غنية عنه.
ـ وأما طريق عبيد بن رفاعة عن عبادة بن الصامت فرواه أحمد:  حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم حدثني إسماعيل بن عبيد الأنصاري. فذكر الحديث. فقال عبادة لأبى هريرة: يا أبا هريرة، إنك لم تكن معنا إذ بايعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في اليسر والعسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله تبارك وتعالى ولا نخافَ لومة لائم فيه، وعلى أن ننصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعَه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعنا عليها.  ... فقام عبادة بين ظهري الناس فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيلي أموركم بعدي رجال يعرِّفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله". وحصل في نسخة المسند سقط، فذهب بذلك اسمُ والد إسماعيل بن عبيد وجزء من القصة.
وهذا الحديث مع القصة لم ينفرد به إسماعيل بن عياش، فقد رواه البزارُ من طريق يوسف بن خالد السمتي وهو متروك، والشاشيُّ في مسنده عن محمد بن إسحاق الصغاني عن محمد بن عباد عن يحيى بن سُليم، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن عبادة بن الصامت به. وروى البيهقي في دلائل النبوة الحديث الأول من الحديثين من طريق عمرو بن عثمان الرقي وهو ضعيف متروك عن زهير بن معاوية وهو ثقة ثبت عن ابن خُثيم، والحديثَ الثانيَ منهما في المدخل من طريق آخر عن عمرو عن زهير عن ابن خُثيم. وروى الحديثَ الثانيَ كذلك الدولابيُّ في الكنى عن هلال بن العلاء بن هلال الرقي عن حسين بن عياش عن زهير، وعبدُ الله بن أحمد في زوائد المسند عن سويد بن سعيد الهروي عن يحيى بن سُليم، كلاهما عن ابن خثيم.
[محمد بن إسحاق الصغاني ثقة متقن مات سنة 270. محمد بن عباد بن الزبرقان مكي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 234. يحيى بن سُليم الطائفي المكي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 194. عبد الله بن عثمان بن خُثيم مكي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 135. إسماعيل بن عبيد بن رفاعة ذكره ابن حبان في الثقات. عبيد بن رفاعة الأنصاري مدني وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وقد أدرك خلافة عمر]. فهذا السند لا بأس به في المتابعات.
ـ وأما طريق خالد بن معدان عن عبادة فرواه الطبراني في مسند الشاميين: حدثنا الحسين بن إسحاق ثنا علي بن بحر ثنا الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم. [الحسين بن إسحاق التستري المتوفى سنة 290 قال عنه الذهبي في السير: كان من الحفاظ الرحالة. علي بن بحر القطان بصري ثقة مات سنة 234. الوليد بن مسلم 119 ـ 195 دمشقي ثقة فيه لين يدلس ويسوي. ثور بن يزيد 83 ـ 153 حمصي ثقة. خالد بن معدان حمصي ثقة يرسل مات سنة 104 تقريبا، وروايته عن عبادة منقطعة].
ـ وأما طريق جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت فرُوي مرفوعا وموقوفا:
فأما المرفوع فرواه الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثني الأوزاعي عن عمير بن هانئ أنه حدثه عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت مرفوعا. وهذا إسناد صحيح. وروى اللالكائي هذا الحديث من طريق الأوزاعي عن جنادة عن عبادة، وفي إسناده تخليط.
ثم رواه أحمد عن الوليد بن مسلم: حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن حيان أبي النضر أنه سمع من جنادة يحدث عن عبادة بمثله. وهذا إسناد جيد. [سعيد بن عبد العزيز ولد سنة 90 ومات سنة 167 وهو دمشقي ثقة ثقة واختلط قبل موته. ورواية الوليد بن مسلم عنه ليست مظِنةَ أن تكون بعد الاختلاط].
ورواه حميد بن زنجويه في الأموال وابن أبي عاصم في السنة والشاشي في مسنده وابن حبان في صحيحه وابن عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عمار والهيثم بن خارجة عن مدرك بن أبي سعد الفزاري قال: سمعت أبا النضر حيان: أخبرنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا عبادة، اسمعْ وأطعْ في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك وأثرة على نفسك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن تكون معصيةٌ بواحا". [مدرك بن أبي سعد ويقال ابن سعد الدمشقي ذكره الذهبي فيمن مات بعد سنة 180 وهو صدوق. حيان أبو النضر الدمشقي القارئ ذكره الذهبي فيمن مات بعد سنة 110 وهو صدوق].
وفي هذه الرواية المرفوعة زيادة "وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك" وزيادة "إلا أن تكون معصيةٌ بواحا"، ويبدو أن حيان أبا النضر روى الحديث بدون هاتين الزيادتين قبل أن يدركه الهرم، كما تقدم في رواية سعيد بن عبد العزيز عنه، وأنه رواه بالزيادتين بعدما أدركه الهرم الذي هو مظِنة لتغير الحفظ أو قبول التلقين، ففي رواية ابن عساكر أن مدرك بن أبي سعد قال: أتينا يونس ابن حلبس عائدين له في بيته، وكان عنده شيخ أكبر منه يقال له أبو النضر اسمه حيان القارئ، فقال يونس: يا أبا النضر، الحديث الذي حدثتنا!. فذكر الحديث. ويونس بن ميسرة بن حلبس ثقة معمَّر مات سنة 132 وقد يُنسب لجده. والظاهر أن مدرك بن سعد الذي مات بعد سنة 180 أدرك يونس بعدما كبر، وإذا كان يونس معمَّرا وكان حيان أكبر منه فالظاهر أن مدرك بن سعد سمع من حيان وهو طاعن في السن، ويبدو أن ذلك كذلك، لأن هذا يفسر سبب اختلاف رواية حيان لهذا الحديث.
ومما يؤكد أن حيَّان أبا النضر روى تَيْنِكَ الزيادتين بعدما أسنَّ وتغير: روايةُ جماعة من الثقات لهذا الحديث عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده بدونهما، وهي في الصحيحين وعدد من مصادر السنة النبوية، كما تقدم، وأن الوليد بن مسلم لم يذكرهما في روايتيه عن جُنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت، كما تقدم نقلا عن مسند الإمام أحمد.
فقوله في هذه الرواية "وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك " وقوله "إلا أن تكون معصيةٌ بواحا" زيادتان غير ثابتتين في الرواية المرفوعة، لكن الزيادة الثانية ثابتة في الرواية الموقوفة كما سيأتي.
وروى أحمد الحديث في مسنده عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عمير بن هانئ عن جنادة عن عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيادة الثانية "ما لم يأمروك بإثم بواحا"، وهذا من أوهام ابن ثوبان، فقد تغير حفظه بآخره.
وأما الموقوف على عبادة بن الصامت فرواه عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية أن عبادة بن الصامت قال له: ادْن حتى أخبرك بما لَك وما عليك، إن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك والأثرة عليك وأن لا تنازع الأمر أهله، إلا أن تُؤمر بمعصية الله براحا، فإن أُمرت بخلاف ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله. وهذا إسناد صحيح.
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: قال عبادة بن الصامت لجنادة بن أبي أمية: يا جنادة. فذكره نحوه. [وهذا الطريق منقطع بين أبي قلابة عبد الله بن زيد وبين عبادة، ولعله سمعه من جنادة].
ـ ورُوي موقوفا من طريق آخر، وهو ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره قال: حدثنا محمد بن يحيى أنبأنا العباس بن الوليد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة أنه قال: وقد ذُكر لنا أن عبادة بن الصامت لما حضره الموت دعا ابن أخته جنادة بن أبي أمية فقال: ألا أنبئك ماذا عليك وماذا لك؟. قال: بلى. قال: "فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحاً، فما أُمرتَ به من شيء يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله". محمد بن يحيى شيخ ابن أبي حاتم هو الإمام الحافظ محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني المتوفى سنة 301. وهذا السند صحيح عن قتادة، لكن قتادة لم يذكر من حدثه بهذا عن عبادة.
ـ وأما الحديث بزيادة "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" فله طريقان عن جنادة:
الطريق الأول: رواه البخاري قال: حدثنا إسماعيل حدثني ابن وهب عن عمرو عن بكير عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا أصلحك الله حدثْ بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان". ورواه مسلم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم عن عمه عبد الله بن وهب به، وفي آخره: "قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان". [عمرو بن الحارث المصري وُلد سنة 192 ومات سنة 148، وهو ثقة، لكن قال الإمام أحمد: ثم رأيت له مناكير]. ففي هذا الإسناد وقفة، ولا ينبغي التسرع بتصحيحه.
ورواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن عجلان عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال: قال عبادة بن الصامت لجنادة بن أبي أمية الأنصاري: "تعال حتى أخبرك ماذا لك وماذا عليك، السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وأن تقول بلسانك، وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن ترى كفرا بواحا". [عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي ثقة 110 ـ 192. محمد بن عجلان مدني ثقة يضطرب في حديث نافع، وُلد في خلافة عبد الملك ومات سنة 148. بكير بن عبد الله بن الأشج مدني نزيل مصر وهو ثقة ثقة مات سنة 122 ولم يدرك عبادة].
وفي هاتين الروايتين نرى أنه قد اختلف عمرو بن الحارث ومحمد بن عجلان في رواية هذا الحديث بهذا اللفظ عن بكير بن عبد الله بن الأشج، فرواه الأول منهما عنه عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة مرفوعا، ورواه الثاني منهما عنه عن عبادة أنه قال لجنادة، ولم يدخِل بينهما أحدا، وبالوقف على عبادة لا برفعه. ولا يصح إذا اختلف ثقتان في الرواية أن يُقضى لأحدهما على الآخَر ما لم نجد له متابعا، وإذْ لم نجد فالواجب التوقف وإعلال الطريق المشتمل على الزيادة بالذي ليست فيه.
ولا يُعقل أن يكون الحديث عند بُكير بهذا اللفظ عن بسر عن جنادة عن عبادة مرفوعا فيرويَه مرة هكذا ويرسلَه مرة عن عبادة موقوفا عليه، فطريق عمرو بن الحارث معلول.
الطريق الثاني: رواه البزار عن إبراهيم بن هانئ عن محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك بالطاعة في عسرك ويسرك وأثرة عليك وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بالكفر صراحا". قال البزار: وقال غير يحيى "أن يأمروك بمعصية الله". [إبراهيم بن هانئ النيسابوري ثقة مات سنة 265. محمد بن كثير الصنعاني المصيصي صدوق كثير الخطأ منكر الحديث مات سنة 216]. فهذا إسناد ضعيف.
ـ ولحديث عبادة بدون هذه الزيادة شواهد من حديث جابر بن عبد الله وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وأبي أمامة:
ـ فأما حديث جابر فرواه أحمد والفاكهي وابن حبان واللالكائي والبيهقي في السنن، من طريق يحيى بن سُليم ومعمر بن راشد وداود بن عبد الرحمن العطار، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير محمد بن مسلم أنه حدثه جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم وبمجنة وبعكاظ وبمنازلهم بمنى: "مَن يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي عز وجل وله الجنة؟". فلا يجد أحدا ينصره ويؤويه، ... حتى بعثنا الله عز وجل له من يثرب، فيأتيه الرجل فيؤمن به، فيقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور يثرب إلا فيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله عز وجل فائتمرنا واجتمعنا سبعون رجلا منا، فقلنا حتى متى نذر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف ؟!، فدخلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه شِعب العقبة، ... فقلنا: يا رسول الله علامَ نبايعك؟. قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".
ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه مسلم في صحيحه وأحمد والنسائي من طريق أبي صالح السمان عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك".
ـ وأما حديث ابن عمر فرواه البخاري ومسلم وأحمد من طريق جماعة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
ـ وأما حديث أبي أمامة فرواه الطبراني في مسند الشاميين: حدثنا محمود بن محمد الواسطي حدثنا زكريا بن يحيى زحمويه حدثنا فرج بن فضالة عن لقمان بن عامر عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا لهم وأطيعوا، في عسركم ويسركم ومنشطكم ومكرهكم وأثرة عليكم، ولا تنازعوا الأمر أهله". محمود هو ابن محمد بن منويه الواسطي المتوفى سنة 307، بيض له الخطيب البغدادي وكذا الذهبي في تاريخ الإسلام. زكريا بن يحيى زحمويه واسطي ثقة مات سنة 235. فرج بن فضالة الحمصي ضعيف وروايته عن أهل بلده لا بأس بها، مات سنة 176. لقمان بن عامر حمصي صدوق. فهذا إسناد ضعيف، ولا بأس به في الشواهد.
ـ خلاصة طرق حديث عبادة بن الصامت أنه رُوي من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه، ومن طريق عبيد بن رفاعة عن عبادة بن الصامت، ومن طريق خالد بن معدان عن عبادة، ومن طريق عمير بن هانئ وحيان أبي النضر عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة، وليس عند واحد من هؤلاء هذه الزيادة "إلا أن تروا كفرا بواحا".
وروى هذه الزيادةَ "إلا أن تروا كفرا بواحا" عمْرُو بنُ الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة، وهذا الطريق معلول بما رواه محمد بن عجلان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عبادة، كما تقدم. ورواها كذلك محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة، ومحمد بن كثير منكر الحديث.
فخلاصة القول في حديث عبادة بن الصامت أنه لم يصحَّ بزيادة "إلا أن تروا كفرا بواحا"، وأن هذه الزيادة معلولة.

نداء إلى مشايخ المذهب الحنفي في حلب والبلدات السورية النائمة



ـ قال الفقيه الحنفي الكبير أبو بكر الرازي الجصاص أحمد بن علي المتوفى سنة 370 في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى "قال لا ينال عهدي الظالمين"، قال رحمه الله: [لا يجوز أن يكون الظالم نبيا ولا خليفة لنبي ولا قاضيا ولا مَن يلزم الناسَ قبولُ قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا، فقد أفادت الآية أن شرْطَ جميع من كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالةُ والصلاح، ألا ترى إلى قوله تعالى "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين؟!"، يعني أقدِّمْ إليكم الأمر به، وقال تعالى "الذين قالوا إن الله عهد إلينا"، ومنه عهد الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إنما هو ما يُتقدم به إليهم ليحملوا الناس عليه ويحكموا به فيهم، وذلك لأن عهد الله إذا كان إنما هو أوامره لم يخْلُ قوله "لا ينال عهدي الظالمين" من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين أو أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلِّ مَن يُقبل منهم أوامرُ الله تعالى وأحكامه ولا يُؤتمنون عليها، فلما بطَل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم وأنهم إنما استحقوا سمة الظلم لتركهم أوامر الله؛ ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغيرُ مقتدًى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين، فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناسَ اتباعُه ولا طاعته، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما وأن أحكامه لا تنْفُذ إذا ولي الحكم، وكذلك لا تُقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي ولا فتياه إذا كان مفتيا، ومن الناس مَن يظن أن مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته وأنه يفرِّق بينه وبين الحاكم فلا يجيز حكمه، وذُكر ذلك عن بعض المتكلمين وهو المسمى زرقان، وقد كذب في ذلك وقال بالباطل، وليس هو أيضا ممن تُقبل حكايته، ولا فرْق عند أبي حنيفة بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وكيف يكون خليفة وروايته غيرُ مقبولة وأحكامه غيرُ نافذة؟!، وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجَور، ولذلك قال الأوزاعي "احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف، فلم نحتمله"، يعني قتال الظلمة، وكان من قوله وجوبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول فإن لم يُؤتمر له فبالسيف، على ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار ونسَّاكهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال هو فرض، وحدثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله"، فرجع إبراهيم إلى مرو، وقام إلى أبي مسلم صاحب الدولة، فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماءَ بغير حق، فاحتمله مرارا ثم قتله، وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المالَ إليه وفتياه الناسَ سرا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمْره مع محمد وإبراهيم ابني عبدِ الله بن حسن، وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فُقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام، فمن كان هذا مذهبَه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف يرى إمامة الفاسق؟!].
ـ قال الفقيه الحنفي الكبير علي بن محمد بن أحمد السمناني المتوفى سنة 499 في كتابه روضة القضاة: "شروط الإمامة، ... ومنها أن يكون في ظاهره عدلا غير فاسق، لأنه إن فسق بوجه من وجوه الفسق لم يُوثق بعدله، ولم يُؤمن أن يحيف في الأحكام وأن يجبي ما لا يستحقه من المال ويصرفه إلى من لا يستحقه، لأنه أمين فيما يأخذ ويعطي، فإذا كان فاسقا لم يُؤمَّر أميرا على المسلمين ولا يُعقد له ولاية ولا يجب له علينا طاعة".
ثم قال: "والإمام إنما يُخلع إذا ارتكب من الأمور ما لا يجوز أن يُبتدأ له معه ولاية، لأنه نائب عن المسلمين، يستوفي ما وجب لهم من الحقوق، ويوفيهم ما وجب لهم، ويستوفي منهم ما يجب استيفاؤه لله تعالى، فهو الأمين، والذائد عن الدين، فإذا جار واعتدى وتمرد واحتوى على الأموال وجب على أهل الدين وعلى المسلمين خلعُه ومنعه والاستبدالُ به".
ـ قال نجم الدين عمر بن محمد النسفي المتوفى سنة 537 في العقائد النسفية: "الإمام يُشترط أن يكون من أهل الولاية المطلقة الكاملة، سائسا، قادرا على تنفيذ الأحكام وحفظ حدود دار الإسلام وإنصاف المظلوم من الظالم".
ـ قال الشريف الجرجاني علي بن محمد بن علي الشيرازي الحنفي المتوفى سنة 816 في شرح المواقف للإيجي: "وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلالَ أحوال المسلمين وانتكاسَ أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها، وإن أدى خلعه إلى الفتنة احتُمل أدنى المضرتين".
ونقل ابن عابدين فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره محمد أمين بن عمر المتوفى سنة 1252 في حاشيته كلامَ شارح المواقف ولم يتعقبه بشيء.
ـ ثم إنك ترى في المقابل من فقهاء الحنفية مَن توفي سنة 786 يقول: "السلطان لا ينعزل بالفسق والظلم، ولا تجوز منازعته في السلطنة بذلك". وتجد منهم مَن توفي سنة 970 يقول: "الفسق لا يمنع أهلية الشهادة والقضاء والإمرة والسلطنة والإمامة والولاية في مال الولد والتولية على الأوقاف، ولا تحل توليته، وإذا فسق لا ينعزل، وإنما يستحقه، بمعنى أنه يجب عزله أو يحسُن عزله".
يا مشايخ الحنفية المؤتمنين على دين الله تعالى:
أين أنتم عن فقه أبي حنيفة وكبار فقهاء المذهب رحمهم الله؟!.
هذا أبو بكر الرازي يقول ببطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناسَ اتباعُه ولا طاعته، ويخبركم أن مَن نقل عن أبي حنيفة تجويزَ إمامةِ الفاسق وخلافتِه فقد كذب في ذلك وقال بالباطل، وأن أبا حنيفة كان يقول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول، وأن من أمر بالمعروف فلم يُؤتمر له فبالسيف.
وهذا السمناني يقول عن الإمام إن فسق بوجه من وجوه الفسق لم يُوثق بعدله، ولم يُؤمن أن يحيف في الأحكام وأن يجبي ما لا يستحقه من المال ويصرفه إلى من لا يستحقه، وأنه إذا كان فاسقا لم يُؤمَّر أميرا على المسلمين ولا يُعقد له ولاية ولا يجب له علينا طاعة، وأنه إذا جار واعتدى وتمرد واحتوى على الأموال وجب على أهل الدين وعلى المسلمين خلعُه ومنعه والاستبدالُ به.
وهذا نجم الدين النسفي يقول إنه يُشترط في الإمام أن يكون قادرا على تنفيذ الأحكام وحفظ حدود دار الإسلام وإنصاف المظلوم من الظالم.
يا مشايخ الحنفية المؤتمنين على دين الله تعالى:
بشار الأسد وزمرته فاسقون، ولا يُوثق بعدلهم، ويحيفون في الأحكام، ويجبون من المال ما لا يستحقون ويصرفونه إلى من لا يستحقه، وقد جاروا واعتدوا وتمردوا على الحق والعدل والإنصاف، ولا يقومون بتنفيذ الأحكام وحفظ دار الإسلام وإنصاف المظلوم من الظالم، بل هم خائنون للأمة متسلطون عليها بالقهر والإذلال، فمثل هذا ليست له ولاية، ولا يجب له على الأمة طاعة، ويجب على أهل الدين وعلى المسلمين خلعُه ومنعه والاستبدالُ به.
فكونوا أنصار الله وأنصار رسوله، ولا تكونوا عونا للظالم، قال الله جل شأنه {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 26/ 10/ 1432